في غضون 24 ساعة فقط من بث حلقة من برنامج "الحياة بعد الحياة"، قال أكثر من 12 ألف مشاهد إنهم توقفوا عن محاولة الانتحار بعد مشاهدة البرنامج.
ذكرت وكالة أنباء عاشوراء، نقلاً عن وكالة مهر للأنباء، أن لقاءً تخصصياً بعنوان "الحياة بعد الحياة: مراجعة لأسس وإنجازات برنامج "الحياة بعد الحياة" التلفزيوني" انعقد في جامعة الإمام الصادق (عليه السلام) بمشاركة نخبة من العلماء في مجالات الدين والإعلام والعلوم الإنسانية، وبالتعاون مع مركز إحياء الدين وكلية الدراسات الإسلامية وعلوم الكلام بجامعة الإمام الصادق (عليه السلام).
حضر اللقاء، الذي عُقد بحضور معدّ ومخرج ومقدّم البرنامج، الأستاذ عباس مزون، نخبة من أساتذة الجامعات والخبراء في مجال الإعلام والاتصالات. وقدّم كلٌّ من السيد مصطفى سعدات مصطفوي، والسيد علي أصغر خندان، والسيد مهدي سبهري، والسيد حامد سفريزي، والسيد أبو الحسن حسيني، تحليلاً للبرنامج من مختلف الجوانب العلمية والمعرفية والثقافية والإعلامية.
برنامجٌ نقل الروحانية من المفاهيم المجردة إلى التجربة العملية
في بداية هذه الجلسة، أشار الدكتور سفريريزي، الأستاذ الجامعي والباحث الإعلامي، إلى انتهاء الموسم السادس من برنامج "الحياة بعد الحياة" والموجة التي أحدثها بين الجمهور، مؤكدًا: "يجب اعتبار هذا البرنامج أكثر من مجرد منتج إعلامي. فهو من أنجح الأمثلة على دمج المحتوى الديني مع صيغ الإعلام الاحترافية؛ وذلك في مجالٍ لم يحظَ باهتمامٍ كافٍ من صناع البرامج التلفزيونية".
واستكمل الجلسة، مشيرًا إلى نقطةٍ مهمة، من خلال نظرةٍ سطحيةٍ مُرَضيةٍ إلى التصورات السطحية للبرنامج: "جزءٌ كبيرٌ من الانتقادات الموجهة للبرنامج يعود إلى عدم اكتمال عرضه للجمهور واعتماده على مقاطع قصيرة.
وأكد: "لقد رأى العديد من النقاد البرنامج بشكلٍ تجريديٍّ ولم يدركوا بنيته المتماسكة؛ بينما إذا تابع المرء الفصول المختلفة بشكلٍ مُستمرٍّ وكامل، سيُدرك أن هذا العمل يتمتع بمستوى عالٍ من تماسك المحتوى والأصالة".
وأضاف: في عصر اعتاد فيه الجمهور على استهلاك المحتوى بسرعة وبسطحية، يُعدّ عرض مفاهيم ثقيلة كالموت، وعالم المطهر، وكتاب الحسابات والأعمال، والشفاعة، بصيغة إعلامية، مهمةً صعبةً للغاية وقيّمةً في آنٍ واحد. وقد سعى هذا البرنامج إلى الابتعاد عن فخ "التصوف السطحي"، وبدلًا من ذلك، يدعو الجمهور إلى التفكير والتأمل وإعادة قراءة الذات.
وأكد أن هذا البرنامج هو نتاج فكر الدكتور مُزن الشخصي ومبادرته منذ البداية وحتى يومنا هذا، مشيرًا إلى أنه: "مع أن عوامل كثيرة ساهمت في إنتاج هذا البرنامج، ولولا جهود العوامل التقنية، لما تحقق هذا النجاح، إلا أن فكرة البرنامج ومحتواه وبنيته وتوجيه مساره المضموني ترجع في الواقع إلى جهود ومثابرة من انخرط في البحث وجمع البيانات وتصميم الصيغة التعبيرية لهذا العدد لسنوات قبل بدء الإنتاج الرسمي".
الحياة الآخرة منهج نبوي لإثبات عالم الغيب
في الجزء الرئيسي من الجلسة، قدّم عباس مزون، منتج ومخرج برنامج "الحياة الآخرة"، وهو شخصية بارزة في هذا المجال، تحليلاً شاملاً، وشرح الأسس الفكرية والتجريبية لهذا البرنامج، وفتح آفاقاً لفلسفته الإنتاجية أمام الجمهور. استهل كلمته بالإشارة إلى الرحلة الشخصية والعلمية التي قادت إلى إنشاء هذا البرنامج، قائلاً: "الحياة الآخرة" هو ثمرة ثلاثة عقود من الدراسة والملاحظة والمناقشة وجمع وتحليل تجارب الاقتراب من الموت من ثقافات ومصادر مختلفة؛ جهد متواصل لفهم أبعاد الوجود المجهولة التي تقع على الحدود بين الحياة الدنيا والآخرة بشكل أفضل.
وأكد عباس مزون: "كانت شراراته الفكرية الأولى لدخول هذا المجال نتيجة اطلاعه على أعمال الدكتور ريموند مودي، الطبيب النفسي الأمريكي ومؤسس الأبحاث الحديثة في تجارب الاقتراب من الموت". قال إن دراسة أعمال هذا الباحث الغربي، وإن كانت مُلهمة في البداية، إلا أنها كشفت تدريجيًا أن العمق المعرفي لهذا البحث لا يُضاهي بأي حال من الأحوال تراثنا الروحي والصوفي العظيم. فما يُناقش في الغرب باسم "تجربة الاقتراب من الموت" يقتصر في الغالب على جمع ووصف التجارب المتبقية، ويفتقر إلى التفسيرات المعرفية والصوفي والدينية؛ بينما في التراث الإسلامي، لا تُعرف هذه الظاهرة فحسب، بل تُحلل وتُوثق أيضًا.
وفي جزء من حديثه، قال: في الغرب، عندما يتحدث أحدهم عن تجربة الخروج من الجسد أو ملاحظة كائنات ميتافيزيقية، غالبًا ما يُرفض أو يُنظر إليه بتشكك. أما في ثقافتنا الدينية، فإن هذه المفاهيم راسخة. وروايات أهل البيت (عليهم السلام) مليئة بالتفسيرات الدقيقة للعلاقة بين النفس والروح والجسد لحظة الموت، ليس بطريقة مجازية، بل بطريقة علمية ومفهومة تمامًا.
اعتبر أن من أهم أهدافه في هذا البرنامج إحياء مفهوم "الموت" بدلًا من "الموت". يرى أن للموت صورةً قاتمةً ونهائيةً في أذهان الكثيرين؛ بينما في المصادر الإسلامية، يُعدّ الموت نقطةَ انطلاق الإنسان في العالم الآخر، وهو، بدلًا من أن ينقطع، مرحلةٌ من الانتقال والتحول. وأكد مُزن أن كلمة "الموت" في الروايات الإسلامية تحمل دلالاتٍ خاصة، وأن تجربة الاقتراب من الموت علامةٌ حيةٌ على هذه الحالة الوسيطة، وهي ملموسةٌ ومفهومةٌ لأهل اليوم.
وصف لحظة الموت وصفًا مجازيًا كالتالي: في هذه الحالة، تنفصل النفس البشرية عن الجسد، لكنها لا تزال متصلةً به بخيطٍ مُنير. إذا شاء الله العودة، استمر هذا الاتصال، وعاد الإنسان إلى الحياة. لكن ما يختبره ليس أمرًا قابلًا للإثبات فحسب، بل قابلٌ للسرد وإعادة النشر أيضًا.
تابع مُزون حديثه مؤكدًا أن تجارب العائدين من الموت تُعدّ مصادر قيّمة لفهم عالم الغيب. وأشار إلى أن العديد من هذه المفاهيم لا تزال في مجتمعاتنا مهمشة، وقال: إذا جمعنا هذه الروايات مع منظور ديني وتحليل معرفي، يُمكن أن يكون لها تأثير هائل على نظرة المجتمع للموت والحياة والمسؤولية الفردية والآخرة.
كما أشار مُزون إلى منهج الأنبياء في إثبات الغيب، فقال: لم يقتصر منهج الأنبياء على الاستدلال الفلسفي والمفاهيم العقلية فحسب؛ بل استخدموا الآيات والمعجزات والتجارب الموضوعية لإثبات عالم الغيب. والحياة الآخرة، في حد ذاتها، تُحاول نقل المفاهيم الدينية العميقة من عالم التجريد إلى عالم التجربة باستخدام هذا المنهج.
اعتبر هذا المسار بمثابة "عودة إلى المنهج النبوي" في دعوة الناس إلى الإيمان بالغيب، وأكد أنه على الرغم من أن الإعلام لا يمكن أن يحل محل النبي، إلا أنه يمكن أن يكون أداة فعالة في مواصلة هذا النهج. ويعتقد أن لغة الصور والموسيقى والصوت والروايات الإنسانية هي أدوات، إذا رافقتها نية خالصة وتحليل عميق، يمكن أن تجعل القلوب تدرك الحقائق التي كانت في نصوصنا لقرون، ولكنها ظلت بعيدة عن مستوى الوعي العام.
إعادة تعريف "الموت" مقابل التفسير الشائع لـ "الموت"
واصل عباس مزون حديثه، ركز على الفرق الجوهري بين كلمتي "الموت" و"الاحتضار"، مؤكدًا على ضرورة إعادة النظر في المفاهيم المهملة في الثقافة الدينية. ووفقًا له، فإن جزءًا كبيرًا من القلق والخوف والخيال المظلم للإنسان المعاصر بشأن نهاية الحياة ينبع من فهم خاطئ أو ناقص لمعنى الموت؛ ومع ذلك، في المصادر الدينية، وخاصةً في التراث الروائي الشيعي، تُستخدم كلمة محددة ذات دلالة دلالية دقيقة للإشارة إلى لحظة الانتقال من هذا العالم إلى الآخرة، وهي "إيثار".
وأوضح أن كلمة "الموت" في الأذهان العامة غالبًا ما تُفهم على أنها تعني الانقطاع التام للحياة ونهاية كل شيء؛ بينما تعني "إيثار" "الحضور على العتبة". في أدبنا الديني، تعني الإيثار أن الشخص على حدود عالمين ولا يزال في مرحلة انتقالية، وليس أنه منفصل تمامًا عن هذا العالم. واستنادًا إلى روايات أهل البيت (عليهم السلام)، شبّه مُزن هذا الانتقال بانتقال لا يزال فيه الشخص على صلة بالروح، وقد يعود إلى هذا العالم أو ينتقل إلى الآخرة، بناءً على المشيئة الإلهية.
وتابع، مستشهدًا برواية دقيقة وعميقة عن الإمام الباقر (عليه السلام) حول علاقة الروح بالجسد ومراتب الوجود الإنساني، مؤكدًا أن هذه المفاهيم وُضِعت في الثقافة الإسلامية منذ سنين طويلة، ولكن بسبب ضعف الطرح الإعلامي، نُسيت أو شُوِّهت من أذهان عامة الناس. ويرى مُزن أن من أهم مهام برنامج "الحياة الآخرة" إعادة هذه المفاهيم إلى سياق حياة الناس؛ ليس في شكل نقاشات مُجرَّدة ومُعقَّدة، بل في سياق ملموس ومسموع وإنساني. في إشارة إلى تجارب مئات الضيوف في البرنامج، والذين عادوا جميعًا من حافة الموت، اعتبر موزون هذه التجارب دليلاً حيًا على الصلة بين التعاليم الدينية والحقائق الإنسانية، وقال: عندما يتحدث شخص ما عن ملاحظاته في لحظات الموت وما ورد في الروايات يتوافق مع تجربته، فإن المفاهيم الدينية لم تعد تقتصر على مجرد معتقدات تقليدية، بل أصبحت حقيقة ملموسة ومفهومة وقابلة للتصديق بعمق.
وأضاف مقدم البرنامج التلفزيوني: تجربة الاقتراب من الموت تعني انفصالًا مؤقتًا عن الجزء غير المادي من وجود الشخص. أعتقد أن هذا الجزء غير المادي هو الروح. التركيز على المؤقت، أي أن هذا الانفصال مؤقت. كلمة "قريب" هنا تعني شيئًا مشابهًا. المقصود هنا هو الموت، وخصائص الموت مختلفة عن الموت.
ووفقًا لموزون، فإن قدرة سرد تجارب الموت في بناء الثقافة تتجاوز بكثير قدرة العديد من الإعلانات والتوصيات؛ لأن هذه التجارب داخلية، شخصية، مباشرة، وصادقة، وتدفع الجمهور إلى إعادة التفكير في حياته وأفعاله وسلوكه ومصيره دون إكراه. وأكد قائلاً: "هذه المفاهيم، إذا فُهمت وعُبِّر عنها بشكل صحيح، يُمكن أن تُحدث تحولاً جذرياً في نظرة المجتمع للحياة والموت".
من إحصائيات الانتحار إلى إنقاذ الأرواح
استعرض موزون بعض الإحصائيات وتعليقات جمهور البرنامج، والتي أشارت إلى التأثير الاجتماعي الواسع والعميق لبرنامج "حياة بعد حياة" بين مختلف شرائح المجتمع. وأشار إلى استطلاعات رأي أُجريت عبر الموقع الرسمي للبرنامج، موضحًا أنه خلال 24 ساعة فقط من بث إحدى الحلقات، أعلن أكثر من 12,046 مشاهدًا توقفهم عن محاولة الانتحار بعد مشاهدته. ورغم أن هذا العدد قد يبدو مفاجئًا، بل وربما غير متوقع للوهلة الأولى، إلا أنه يُشير إلى أن البرنامج استطاع التواصل مع الطبقات النفسية والروحية العميقة لدى الجمهور، وأضاء شعلة الأمل والتفاؤل في نفوس الأفراد في أوقات ربما كانوا على وشك الانهيار النفسي والعاطفي.
وأضاف موزون أن هذا ليس سوى جزء بسيط من التعليقات التي تلقاها. واستشهد بمثال آخر، حيث ذكر 2,823 مشاهدًا في استطلاع آخر أنهم غيّروا قرارهم بالإجهاض وأنجبوا طفلهم، وذلك بفضل تأثير البرنامج. قال إن هذه القضية مهمة لأنها تُظهر أن البرنامج لم يؤثر فقط على عقول وأفكار الجمهور، بل أثر أيضًا على قراراتهم المصيرية؛ قرارات تُغير أحيانًا مجرى حياة، أو حتى مصير جيل.
ومن الدلائل الأخرى على التأثير العميق للبرنامج، وفقًا للدكتور موزون، التغيرات الملحوظة في طريقة تعامل العائلات مع وفاة أحبائهم. قال: "في كثير من الحالات، لاحظنا أن العائلات، متأثرة بمفاهيم البرنامج، قررت استخدام عبارة "بداية الحياة بعد الموت" على شاهد القبر بدلًا من كتابة عبارات مثل تاريخ الوفاة. وهذا يعني تغييرًا في نظرة الناس للموت؛ تغيير لا يحدث إلا عندما تخترق المعتقدات الطبقة السطحية إلى الطبقة الداخلية والقلب".
وأضاف موزون أنه على الرغم من أن هذه الملاحظات مُشجعة بالنسبة له، إلا أنها تُمثل مسؤولية أيضًا. برأيه، عندما تجد وسيلة إعلامية القدرة على التأثير في حياة جمهورها ومصيره، فعليها أن تحرص على عدم الانحراف عن مسار الروحانية والإخلاص، وأن تتحرك دائمًا بقصد الهداية، والصدق في السرد، والولاء للقيم الدينية.
الإيمان بالغيب، العنصر الحضاري المنسي
علاوة على ذلك، من خلال دراسة التجارب الفردية والآثار الاجتماعية للبرنامج، دخل الدكتور عباس مزون في نقاش أوسع، وقدّم "الإيمان بالغيب" كعنصر بناء حضاري، ولكنه منسي في مجتمع اليوم. ويرى أن من أضرار الحضارة الحديثة العميقة أن مفاهيم الغيب - بدلًا من أن تبقى في مكانتها الوجودية - إما أُنكرت تمامًا أو اختُزلت إلى مجرد حالات داخلية، أو مشاعر عابرة، أو تعاليم رمزية.
واعتبر مزون برنامج "الحياة بعد الحياة" محاولةً لإحياء الإيمان بالغيب على مستوى التجربة، وليس مجرد تعليم أو دعاية. قال: "لم يكن هدفنا مجرد إعادة سرد التعاليم الدينية. أردنا أن يلمس الجمهور الغيب لا أن يسمعه؛ أن يختبر الإيمان لا أن يحفظه. وهذا بالضبط هو المسار الذي سلكه الأنبياء عبر التاريخ".
وأضاف أن الأنبياء، على الرغم من أنهم تكلموا بالعقل والحكمة، استخدموا أدوات كالآيات والمعجزات والتجارب الموضوعية لجعل الحقيقة مفهومة للناس. ووفقًا لموزون، فقد سلك برنامج "الحياة بعد الحياة" هذا المسار، وسعى إلى تهيئة الفضاء الداخلي للإنسان المعاصر لاستقبال مفاهيم الغيب بالاعتماد على صدق التجارب الإنسانية والاستفادة من قوة الإعلام.
وفي إشارة إلى الاستقبال الواسع للبرنامج من قبل الجمهور على مدار ستة مواسم، قال مزون: في الموسم الثالث، سُجلت نسبة رضا 93.64% من الجمهور، وهي، وفقًا لمسؤولي هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، أعلى نسبة مسجلة في تاريخ المؤسسة. يُظهر هذا الاستقبال أن الجمهور الإيراني، رغم كل التعقيدات والتغيرات الثقافية، لا يزال لديه نظرة ثاقبة ومتعطشة للمفاهيم الروحية؛ شريطة أن تُعرض هذه المفاهيم باللغة والشكل المناسبين. هذا يعني أن الشعب الإيراني يُحب الروحانية ويُقدّر محتواها الروحي، لكننا لا نعرف كيف نُتقنه.
الإيمان الديني في إطار الصورة؛ سرد الأساتذة
كان ما يميز هذه الجلسة تنوع وجهات النظر التحليلية التي طرحها الأساتذة الحاضرون في لجنة الخبراء. وقد حلل كلٌّ منهم ظاهرة "الحياة الآخرة" من زاوية مختلفة: فقد أكد بعضهم على دور البرنامج في تعزيز الإيمان بالغيب، وقيّموه بما يتماشى مع الدعوة القرآنية "الذين يؤمنون بالغيب". ويعتقدون أن البرنامج قد نجح في نقل المعتقدات الدينية من مستوى الماديات إلى الطبقات الباطنية والحدسية.
وتناولت مجموعة أخرى منهجية البرنامج، واعتبرتها مثالاً على الطابع التجريبي لدعوة الأنبياء. من وجهة نظرهم، دعا البرنامج الجمهور إلى التفكير والتأمل، ليس من خلال الحجج اللفظية، ولكن من خلال تقديم الأدلة والسرد الشخصي.
أشار بعض الأساتذة أيضًا إلى الإمكانات الحضارية للبرنامج. ورأوا أن إعادة تفسير مفاهيم كالموت، والمطهر، والشفاعة، والمحاسبة في السياق الإعلامي سيسهم بشكل كبير في بناء لغة دينية مشتركة في المجتمع؛ لغة نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى.
كما أُثيرت، من منظور نقدي، مسألة "اقتصاص" الجمهور؛ إذ إن العديد من الانتقادات الموجهة للبرنامج تنبع من استهلاك سطحي ومجزأ للمحتوى، وأنه من أجل إصدار حكم صحيح، يجب فهم هيكل البرنامج بالكامل.
وأخيرًا، قُدّمت توصيات لتوسيع نطاق هذه التجربة في مجالات أخرى؛ بما في ذلك استخدام هذا النموذج في سردية التوبة، وكرامة أهل البيت، أو حتى مفاهيم كالبركة، والحماية، والغفران.
سعادت مصطفوي: الإيمان من المفهوم إلى الشعور
قال السيد مصطفى سعادت مصطفوي، أستاذ الحوزة والجامعة، في تحليله لمكانة البرنامج في مجال تمثيل المعرفة الدينية: "لقد حوّل برنامج "الحياة الآخرة" ما عرفناه لسنوات بالإيمان من منظور مفاهيمي إلى شعور حقيقي. أي أنه خلق نوعًا من التغلغل في القلب. وقد تحققت هنا الآية الكريمة "يا أيها الذين آمنوا آمنوا". لم يقتصر إيمان الجمهور على الغيب، بل أحس به أيضًا.
وأضاف: يُعد التلفزيون من الوسائل الإعلامية القليلة القادرة على إيصال المفاهيم الدينية العميقة إلى الجمهور العام، شريطة أن تكون لغته لغة الناس. وقد أجاد هذا البرنامج في هذا الصدد.
علي أصغر خندان: التجربة منهج نبوي
وأشار خندان، أحد الأساتذة الحاضرين، إلى العلاقة بين منهج الأنبياء وأسلوب السرد في البرنامج في خطاباته، وقال: "استخدم الأنبياء المحسوسات لإثبات الغيب". لقد أظهروا، ولم يكتفوا بالجدال. وقد اتبع برنامج "حياة بعد حياة" هذا النهج، فأصبح مفهومًا لشريحة واسعة من الناس.
وأكد على ضرورة الاهتمام بالقدرات الفنية لهذا النوع من الإنتاج، وأضاف: "لا يمكن جذب الجمهور بالمحتوى وحده. لقد أثبت فريق إنتاج هذا البرنامج، وخاصةً في تصميم العناوين والمونتاج واختيار الموسيقى وخلق أجواء روحية، أن الشكل والمضمون يمكن أن يكونا متآزرين".
استقبالٌ فريدٌ من الجمهور للروحانية العلمية
عقب الجلسة، ناقش مهدي سبهري، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام الصادق (ع)، ظاهرة "الحياة الآخرة" من منظور حضاري، مركّزًا على الأدلة الخارجية وإثبات الروايات، وشدّد على دور هذا البرنامج في إحياء مفاهيم أساسية كالموت والبعث والشفاعة والمسؤولية عن الأفعال. وأشار إلى أن من أهم إنجازات هذا البرنامج أنه لم يقتصر على طرح هذه المفاهيم على مستوى الخطاب العام فحسب، بل أعاد تعريفها أيضًا بصيغة سردية جذابة لجمهور اليوم.
سبهري: التجارب الخفية تُعيد صياغة اللغة الدينية في السياق الثقافي المعاصر
مؤكدًا أن أحد تحديات الحضارة الإسلامية اليوم هو كيفية تقديم المعرفة الدينية وإعادة تفسيرها بصيغ ذات معنى للإنسان المعاصر، قال سبهري: "عادةً ما نتحاشى الروايات الفردية ونعتقد أن هذه الأنواع من الروايات تفتقر إلى الدعم المعرفي. ومع ذلك، إذا ما انطلقت من إطار علمي وهندسيّ، فإنها يمكن أن تحمل في طياتها معانٍ عميقة للغاية. معانٍ لا تُقنع الجمهور فحسب، بل تُغيّره أيضًا.
وأضاف: إن روايات من عاشوا تجارب الموت ليست مجرد قصص للتسلية أو إثارة المشاعر؛ بل هي في الواقع منصات لإعادة صياغة اللغة الدينية في سياقنا الثقافي المعاصر. تجارب، إذا ما اقترنت بتوجيهات الخبراء الدينيين والإعلاميين، يُمكن أن تلعب نفس دور "الدليل" التاريخي لجيل اليوم.
حسيني: إحياء قضية أهل البيت (عليهم السلام) في العصر الحاضر يعتمد على إعادة قراءة موت الوعي
وأشار المتحدث الأخير في الجلسة، حسيني، مدير مركز إحياء القضية، إلى ضرورة إعادة صياغة الحوار الديني مع جيل الشباب بصيغ جديدة. واعتبر برنامج "الحياة بعد الحياة" مثالًا ناجحًا على الاستجابة للهواجس الروحية للإنسان المعاصر، والذي استطاع أن يُعوّض جزئيًا عن فجوة التواصل بين المؤسسة الدينية وعقل ولغة مجتمع اليوم. وأضاف: على الرغم من أن مركز إحياء القضية قد جعل الحياة الحسينية رسالتها، إذ ينقل هذا البرنامج موت الوعي إلى أفراد المجتمع، ولأن موت الوعي والاهتمام بالموت جزءٌ أساسيٌّ من دفع المجتمع نحو الحياة الحسينية، فإن هذا البرنامج ينسجم مع رسالة مركز إحياء القضية، وقد سعينا إلى أن يكون لنا دورٌ فيه.
واختتم حسيني حديثه قائلاً: على المؤسسات الدينية والجامعات ووسائل الإعلام أن تستفيد من التجربة الناجحة لـ"الحياة بعد الموت" وأن تسعى جاهدةً لإعادة إنتاج التعاليم الإلهية بلغة معاصرة، لأن مستقبل التعليم الديني يعتمد على هذا النوع من إعادة الإنتاج.
ارسال تعليق