يعيش السودان في خضم حرب أهلية وأزمة إنسانية خانقة. وقد أدت الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى شلل البلاد، ونزوح الملايين، ومقتل الآلاف.
بحسب صحيفة عاشوراء نيوز، نقلاً عن وكالة مهراف للأنباء، مقدمة: السودان، دولة شاسعة تقع في شمال شرق أفريقيا، عالقة بين براثن الفقر والانقلابات والأزمات السياسية. يعيش سكانها على ضفاف نهر النيل في بلدٍ زاخرٍ بالذهب والنفط، لكن دون أي مسحة من السلام والاستقرار. لسنوات، يحكم عمر البشير، الجنرال الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عام ١٩٨٩، البلاد. حكم البلاد لما يقرب من ثلاثة عقود، شهدت خلالها حروبًا أهلية وانفصالًا عن الجنوب واشتباكات دامية في دارفور.
في عام ٢٠٠٣، شهدت دارفور واحدة من أكبر المآسي الإنسانية. استخدمت حكومة البشير جماعات قبلية مسلحة تُسمى "الجنجويد" لقمع التمرد. يُعرف الجنجويد بقتلهم وحرقهم القرى. أفادت المنظمات الدولية بمقتل ما بين ١٠٠ ألف و٣٠٠ ألف شخص ونزوح أكثر من مليونين ونصف المليون. في عام ٢٠١٣، حُوِّلت قوات الجنجويد إلى قوة رسمية تُسمى قوات الدعم السريع بأمر من البشير، وأُسندت قيادتها إلى محمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي. في المقابل، ظل الجيش، بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، الركيزة الأساسية للسلطة. يبدو أن القوتان العسكريتان متحدتان، لكنهما في الواقع متنافستان.
الفصل الأول: الثورة
في عام ٢٠١٩، ومع تصاعد الاحتجاجات في السودان، انتشرت صورة على مواقع التواصل الاجتماعي اعتبرها الكثيرون رمزًا للإثارة وتبسيطًا لأزمة عميقة. وقفت آلاء صلاح، طالبة الهندسة المعمارية البالغة من العمر ٢٢ عامًا، على سطح سيارة مرتدية زيًا أبيض تقليديًا، وحرضت الحشود بشعارات حماسية. هتفت بعبارات قصيرة، وردد الناس "ثورة"؛ حوار عذب، لكن دون خطة، ودون تحليل، ودون أي فهم لعواقب مثل هذه الدعوات على بلد هش.
يقول النقاد إن المشهد الذي عُرف بـ"صورة الانتفاضة" كان في الواقع مثالاً على نفس الأفعال العاطفية التي، بدلاً من أن تقود المجتمع نحو الإصلاح، أغرقته في دوامة من عدم الاستقرار. علاء صلاح، الذي سرعان ما ظهر في وسائل الإعلام، لم يقدم أي رؤية واضحة أو خطة للمستقبل في وقت كان فيه الآلاف يهتفون بشعار "الثورة" في جو عاطفي؛ كان مجرد صرخة غضب شعبي، دون أن يعرفوا إلى أين سيقودهم.
بعد بضعة أسابيع، سقط عمر البشير، لكن البلاد دخلت فيما يسميه العديد من المحللين "فراغًا خطيرًا في السلطة" - وهو وضع مهد الطريق لمزيد من الصراعات الدموية، وانتشار نفوذ الميليشيات، وتفاقم الأزمة الإنسانية. بمرور الوقت، أصبحت الصورة الشهيرة نفسها تُعتبر دليلاً على قرارات غير مدروسة سرّعت عملية الانهيار بدلاً من إيجاد حل.
بعد سقوطه، وعد الجيش بنقل السلطة إلى المدنيين. شُكِّلت حكومة مشتركة بين العسكريين والسياسيين المدنيين، وأصبح عبد الله حمدوك رئيسًا مؤقتًا للوزراء. لكن هذا التعاون لم يدم طويلًا. في عام ٢٠٢١، نفّذ الجيش، بقيادة البرهان، انقلابًا على حكومة حمدوك واعتقله. عادت البلاد إلى السيطرة العسكرية. ظاهريًا، يبدو البرهان وحميدتي حليفين، لكن خلافاتهما صارخة. يريد الجيش ضمّ قوات الدعم السريع إلى هيكله، لكن حميدتي، الذي يمتلك ثروة من الذهب وقوة مستقلة، يقاوم. تتحول الخلافات إلى انعدام ثقة علنيًا. يحشد القائدان القوات، ويخزّنان الأسلحة، وينتظران اللحظة التي تتحول فيها الخلافات إلى صراع.
الفصل الثاني: بداية الحرب
من عام ٢٠١٩ إلى عام ٢٠٣٤؛ غرق السودان في حالة من عدم الاستقرار والاضطرابات، ولكن في أبريل ٢٠٢٣، اندلعت الحرب من قلب الخرطوم. تتصاعد الانفجارات والصراخ والدخان من العاصمة، تجتاح السودان بأكمله. لقد حانت لحظة الصراع. سرعان ما حوّلت حربٌ بين جنرالين في بلدٍ واحد حياة ملايين الناس إلى جحيمٍ صامت. ادّعى كلٌّ من الفريق عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش السوداني، ومحمد حمدان دقلو، المعروف بحميدتي، قائد قوات الدعم السريع، إنقاذ البلاد، لكن عملهما لم يجلب سوى الدمار.
شوارع الخرطوم، التي كانت تعجّ بالحياة، أصبحت كومةً من الأنقاض. جميع المدارس مغلقة، والمنازل التي كانت تُدخل البهجة على قلوب الأطفال لم تعد سوى طوبٍ متناثر وجدرانٍ مُهدَّمة. انقطعت الكهرباء والماء منذ زمن، والمستشفيات معطلة، وكل ركنٍ من المدينة يحمل آثار المعارك والدماء. في الأيام الأولى، غادرت العائلات المدينة خالية الوفاض وتشرّدت. شهد ملايين الناس فصل الخريف في بلادهم في الربيع. بلدٌ سقطت فيه جثث أبنائه الهامدة كأوراق الخريف بعد إطلاق النار عليهم. أمهاتٌ عانقن أطفالهنّ كي لا يخشين دويّ القنابل، وآباءٌ وقفوا في طوابير طويلة من الملاجئ بعيونٍ دامعة، على أمل أن يأتي دورهم في النجاة.
آلاء صلاح، المرأة التي شجعت الناس يومًا على الثورة، غادرت بلدها في خضمّ الحرب والدماء وذهبت إلى بريطانيا. الآن، في أزقّة الخرطوم الخلفية، لم يعد يُسمع صوت ضحكات الأمل، بل صوت بكاء الأطفال في الشوارع. أطفالٌ يركضون حفاة الأقدام في الوحل والدماء خلف آبائهم الذين قُتلوا في هجوم، وجوههم الصغيرة مليئة بالحزن والدهشة، وعيونهم مليئة بأسئلةٍ بلا إجابات: لماذا دُمّرَ منزلنا؟ لماذا لم يعد والدنا؟ لماذا التزم العالم الصمت؟ كثيرٌ من هؤلاء الأطفال لم يعودوا يتذكرون حتى اسم مدينتهم. كل ما يعرفونه هو الجوع والخوف وصوت الرصاص الذي لا ينتهي.
لم يمضِ عامان منذ أن وصلت الحرب إلى دارفور، أرضٌ لا تزال تحمل ذكرى جروحٍ من ماضٍ بعيد. في الفاشر، مركز شمال دارفور، دفع حصارٌ دام 500 يوم الناس إلى حافة الجنون. 500 يوم بلا ماءٍ كافٍ، بلا دواء، بلا خبز. كانت هناك أمهاتٌ لا يدرين إن كان أطفالهن سيُطعمون مجددًا، أو اضطررن لمشاهدة أطفالهن يختفون كالشمعة تذوب أمام أعينهن، وآباءٌ خاطروا بحياتهم بحثًا عن كسرة خبز، وانطلقوا في طريقٍ قد لا يعودون منه أبدًا. في النهاية، لم تكن مدينة الفاشر بعيدة المنال، وفي النهاية، انهارت هذه المدينة أيضًا تحت وطأة كل الجرائم والإبادة الجماعية.
بعد سقوط المدينة، سقطت في أيدي قوات الدعم السريع. ما حدث بعد ذلك دمّر مظهر الإنسانية. قُتل آلاف الناس في الشوارع، وتكدست الجثث في المستشفيات. حاول الأطباء الذين بقوا، بأيديهم الفارغة وعيونهم الدامعة، إنعاش الجثث التي لم تعد تقوى على شيء؛ لكنهم كانوا عاجزين؛ مات أكثر من خمسمائة شخص في المستشفيات. في معظم مناطق الفاشر، أُضرمت النيران في منازل، وفي زاوية أخرى، دُفنت عائلات أحياء تحت الأنقاض، وحتى من حاولوا الفرار من الفاشر لم يكونوا بمأمن.
وفي تقرير لرويترز، كتب شهود عيان أن رجالًا فُصلوا عن بعضهم البعض أثناء مغادرتهم الفاشر واختفوا. ويقول خبراء إن هذه التقنية تُستخدم في الإبادة الجماعية. كما تُظهر بعض صور الأقمار الصناعية شريطًا أسودًا يزيد طوله عن كيلومترين، وهو على الأرجح بقايا قافلة سيارات محترقة فرت من الفاشر. وقد صدمت صور ومقاطع فيديو لعمليات إعدام في الشوارع وتعذيب وحرق منازل، بثتها وسائل الإعلام العالمية، العالم. لكن صدمة العالم لم تدم طويلًا، وألم الشعب السوداني يبقى أكثر من عناوين الأخبار.
تُظهر تحليلات الأقمار الصناعية التي أجرتها جامعة ييل وجود مقابر جماعية حول الفاشر؛ فالأراضي التي كانت يومًا ما مهدًا لازدهار السودانيين أصبحت الآن مقابر مجهولة لآلاف الأشخاص. مع استمرار الحرب، لم يبقَ من السودان سوى شبح بلد مزقته الحرب ونُسي. المستشفيات مغلقة، ولم يعد هناك حتى دواء يُباع بأسعار فلكية. يموت الناس جوعًا في الشوارع. أعلنت الأمم المتحدة أن 18 مليون شخص معرضون لخطر الموت جوعًا. في دارفور، لم تأكل العائلات منذ أسابيع؛ يمضغ الناس العشب ويأكلون التراب لكبح جوعهم، وينام الأطفال جائعين، ربما يحلمون بالخبز.
من بين آلاف مقاطع الفيديو التي نُشرت من السودان، هناك مشاهد تهز قلب كل إنسان. في أحدها، يُربط رجل بوجه ملطخ بالدماء إلى شجرة، وفي مواجهة من يحاولون قتله، يقول بنبرة حازمة: "الحمد لله أنني مسلم..." ويكرر الشهادة. في منتصف حديثه، تلقى ضربة على رأسه، لكنه ظل يحمد الله حتى انقطعت الصورة. في فيديو آخر، تجلس امرأة على الأرض، تحمل طفلين هزيلين فاقدي الحياة من الجوع بين ذراعيها. خلفها، تظهر أنقاض ما كان على الأرجح منزلها، ويُسمع صوتها صرخة مفجعة، تطلب المساعدة من جميع شعوب العالم.
أو طفل صغير بوجه ملطخ بالدموع وملابس متسخة، يقول بعجز وعجز: "أنقذونا... نموت جوعًا هنا... لا يوجد طعام... لا يوجد حتى ماء... الأطفال جياع والناس يموتون في الشوارع... والله نموت... أنقذونا..."
الفصل الثالث: السودان وحيدًا
في هذه الأثناء، تقبع الدول التي كانت تدعو للسلام والوساطة وراء ستار الحرب. ومن بين هذه الدول الإمارات العربية المتحدة، وهي دولة ثرية في الخليج، لم تعد تُدرج في قائمة داعمي السلام، بل أصبحت من بين الدول التي تُغذي الحرب السودانية. أصبحت شبكات التمويل والتسليح الواسعة التي تتدفق من الإمارات إلى الصحراء السودانية وقودًا لاستمرار الحرب. وتشير التقارير الدولية إلى أن الإمارات قدمت أسلحة وطائرات مسيرة وموارد مالية عبر قنوات غير رسمية لقوات الدعم السريع، وهي القوة نفسها التي ارتبط اسمها بمذبحة دارفور والإبادة الجماعية وتشريد ملايين الأشخاص. ووفقًا لمنظمات حقوق الإنسان، قُتل أكثر من 150 ألف شخص خلال الحرب الأهلية السودانية، وشُرد أكثر من 12 مليونًا.
أصبحت الحدود السودانية الآن غير آمنة للغاية. لجأ آلاف السودانيين إلى تشاد ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان بحثًا عن ملاذ آمن، لكن شبح الحرب يُخيم عليهم عند كل حدود. المخيمات تغص بالناس. أطفالٌ جائعون لدرجة أنهم لم يعودوا قادرين على البكاء، وأمهاتٌ يبحثن عن كسرة خبز بين التراب والأنقاض ليساعدن أطفالهنّ على تحمّل ألم الجوع. في هذه الأثناء، شكّل صمت العالم ولامبالاة الدول الشريكة في هذه الأزمة الفصلَ الأكثر مرارةً في تاريخ السودان؛ فصلٌ تُفضّل فيه دولارات النفط والذهب على دماء البشر.
ارسال تعليق